شرح قصيدة الحمى لأبي الطيب المتنبي:
قصيدة عملاق الشعر العربي أبي الطيب المتنبي في وصف الحمى قصيدة فريدة خالدة خلود الدهر لما فيها من وصف دقيق جميل ولغة جزلة ومعاني مبتكرة رائعة.. وقد قالها المتنبي وهو في مصر يصف حمى عرضت له فأقعدته أياما مريضا عليلا، وهو في القصيدة يعرض أيضا بقرب رحيله عن مصر بعد أن أخلف حاكمها آنذاك كافور الإخشيدي وعوده التي قطعها له.. والقصيدة قيلت في نحو سنة 959 ميلادية. إليكم القصيدة وشرح البرقوقي لها..
مَلومُكما يَجِلُّ عن المَلامِ *** ووَقعُ
فَعالِهِ فوق الكلامِ 1
ذرانِي والفلاةَ بلا دليلٍ *** ووجْهي
والهجيرَ بلا لِثامِ 2
فإنِّي أسْتريحُ بذي وهذا *** وأتْعبُ
بالإناخَةِ والمُقامِ 3
عُيُونُ رَواحلِي إنْ حِرْتُ عَيْني ***
وكلُّ بُغامِ رازحةٍ بُغامي 4
فقدْ أرِدُ المياهَ بغيْرِ هادٍ *** سوى
عَدِّي لها بَرْقَ الغَمامِ 5
يُذِمُّ لِمُهْجتي ربِّي وسيفي *** إذا احتاج
الوحيد إلى الذمَامِ 6
ولا أُمْسِي لأهْلِ البُخلِ ضَيْفًا ***
وليسَ قِرًى سوى مُخِّ النَّعامِ 7
ولمَّا صارَ وُدُّ الناسِ خِبًّا ***
جَزَيْتُ على ابْتِسامٍ بابْتِسامِ 8
ولسْتُ أشُكُّ فيمَنْ أصْطفيهِ *** لِعِلْمي
أنَّهُ بعضُ الأنامِ 9
يُحِبُّ العاقِلونَ على التصافِي *** وحُبُّ
الجاهِلِينَ على الوَسامِ 10
وآنَفُ مِنْ أخي لِأبي وأمِّي *** إذا ما لمْ
أجِدْهُ مِنَ الكِرامِ 11
أرى الأجْدادَ تغْلِبُها كثيرًا *** على الأولادِ
أخْلاقُ اللئامِ 12
ولسْتُ بقانِعٍ مِنْ كلِّ فَضلٍ *** بأنْ
أُعْزَى إلى جَدٍّ هُمامِ 13
عَجِبْتُ لِمَنْ لهُ قدٌّ وحَدٌّ ***
ويَنْبُو نَبْوةَ القَضِمِ الكَهَامِ 14
ومَنْ يَجِدُ الطريقَ إلى المعالي *** فلا
يَذَرُ المَطِيَّ بلا سَنامِ 15
ولمْ أرَ فِي عُيوبِ الناسِ شَيْئًا ***
كنقْصِ القادِرينَ على التمامِ 16
أقَمْتُ بِأرْضِ مِصْرَ فلا ورائي ***
تَخُبُّ بِيَ الركابَ ولا أمامي 17
ومَلَّنِيَ الفِرَاشُ وكانَ جَنْبي ***
يَمَلُّ لِقاءَهُ في كلِّ عامِ 17
قليلٌ عائِدي سَقِمٌ فؤادي *** كثيرٌ حاسِدي
صَعْبٌ مَرامي 18
عليلُ الجِسْمِ مُمْتنِعُ القِيامِ ***
شَديدُ السُّكْرِ منْ غيْرِ المُدامِ 19
وزائِرتي كأنَّ بها حَياءً *** فليْسَ تزورُ
إلا في الظلام 20ِ
بَذلْتُ لها المَطارِفَ والحَشايا ***
فعافتْها وباتتْ في عِظامي 21
يَضيقُ الجِلْدُ عنْ نَفسي وعنْها *** فتُوسِعُهُ
بأنواعِ السَّقام 22ِ
إذا ما فارَقتْنِي غَسَّلَتْني *** كأنَّا
عاكِفانِ على حَرامِ 23
كأنَّ الصبْحَ يَطْرُدُها فتجْرِي ***
مَدامِعُها بأرْبَعةٍ سِجَامِ 24
أُراقِبُ وَقتَها مِنْ غيْرِ شَوقٍ ***
مُراقبَةَ المُشُوقِ المُسْتهامِ 25
ويَصْدُقُ شَرُّها والصدْقُ شَرٌّ *** إذا
ألقاكَ في الكُرَبِ العِظامِ 26
أبِنْتَ الدَّهْرِ عِنْدي كلُّ بِنْتٍ ***
فكيفَ وصلْتِ أنتِ مِنَ الزحامِ 27
جَرَحْتِ مُجَرَّحًا لمْ يبْقَ فيهِ ***
مكانٌ للسيوفِ وللسِّهامِ 28
ألا يا ليت شِعْرَ يدي أتُمْسي *** تَصَرَّفُ
في عِنانٍ أو زِمامِ 29
وهلْ أرْمي هَوايَ براقِصاتٍ *** مُحَلَّاةِ
المَقاوِدِ باللُّغامِ 30
فرُبَّتَما شَفيْتُ غَليلَ صَدْري ***
بسَيْرٍ أو قناةٍ أو حُسامِ 31
وضاقتْ خُطَّةٌ فخَلُصْتُ مِنها *** خلاصَ
الخَمْرِ مِنْ نَسْجِ الفِدامِ 32
وفارقتُ الحبيبَ بلا وَداعٍ *** ووَدَّعْتُ
البلادَ بلا سَلامِ 33
يَقولُ لِيَ الطبيبُ أكَلْتَ شيْئًا ***
وَداؤُكَ في شَرابِكَ والطعامِ 34
وما في طِبِّهِ أنِّي جَوادٌ = أضَرَّ
بِجِسْمِهِ طُولُ الجِمَامِ 35
تعَوَّدَ أنْ يُغَبَّرَ في السَّرايا ***
ويَدْخُلَ مِنْ قَتامٍ في قَتامِ 36
فأمْسِكَ لا يُطالُ لهُ فيَرْعَى *** ولا
هُوَ في العَليقِ ولا اللجامِ 37
فإنْ أمَرَضْ فما مَرِضَ اصْطِباري *** وإنْ
أُحْمَمْ فما حُمَّ اعْتِزامي 38
وإنْ أسْلَمْ فما أبْقى ولكِنْ *** سَلِمْتُ
مِنَ الحِمامِ إلى الحِمامِ 39
تمَتَّعْ مِنْ سُهادٍ أوْ رُقادٍ *** ولا
تَأمَلْ كَرًى تحتَ الرِّجامِ 40
فإنَّ لِثالِثِ الحاليْنِ معْنًى *** سِوى
معْنى انْتِباهِكَ والمَنامِ 41
1 الفعال: بمعنى الفعل. يقول لِصاحبيه اللذين
يلومانه على تجشم الأسفار وإخطاره بنفسه في طلب المعالي: ملومكما –يعني نفسه- أجل
من أن يلام لأن فعله يجوز طوق القول، فلا يدرك فعله بالوصف والقول، ولأنه لا مطمع
للائم فيه بأن يطيعه أو يخدعه هو يلومه.
2 ذراني: دعاني واتركاني. والفلاة: الصحراء.
يقول: دعاني والفلاة أسلكها بغير دليل لاهتدائي فيها وخبرتي بمسالكها، ودعاني مع
الهجير – الحر – أسير فيه بغير لثام يقي وجهي، لأني اعتدت ذلك.
3 الإناخة: النزول. المقام: الإقامة. وقوله
بذي وهذا: يعني الفلاة والهجير. يقول: راحتي فيهما وتعبي في النزول والإقامة.
4 الرواحل: جمع راحلة وهي الناقة. وبغام
الناقة: صوت لا تفصح به. قال التبريزي: عيون رواحلي تنوب عني إذا ضللت أهتدي بها
وصوتها إذا احتجت إلى أن أصوت ليسمع الحي يقوم مقام صوتي، وإنما قال
"بغامي" على الاستعارة.
5 يقول: لا أحتاج في ورود الماء إلى دليل
يدلني سوى أن أعد برق الغمام وأستدل بذلك على المطر فأتبع موقعه، على عادة العرب
حين كانوا إذا لاح البرق عدوا سبعين برقة، وقيل مائة، فإذا كملت وثقوا بأن البرق
برق ماطر، فرحلوا يطلبون موضع الغيث.
6 يقال: أذم له أي أعطاه الذمة، وهي العهد.
المهجة: الروح. يقول: من احتاج في سفره إلى ذمة ليأمن بذلك، فإني أكون في ذمة الله
وذمة سيفي، يعني: لا أستصحب أحدا في سفري لآمن بصحبته.
7 وليس قرى: وليس لي قرى. يقول: لا أمسي ضيفا
للبخيل وإن لم يكن لي طعام البتة – لأنه لا مخ للنعام – والمعنى لو لم يكن لي قرى
سوى بيض النعام لشربته ولم آت بخيلا.
8 الخب: الخداع. يقول: لما فسد ود الناس وصار
خداعا يبشون بوجوههم وكشحهم منطو على الخبث عاملتهم بمثل ما يعاملونني به فابتسمت
لهم كما يبتسمون إلي.
9 يقول: لعموم الفساد في الخلق كلهم صرت إذا
اصطفيت – اخترت – أحدا لمودتي لم أكن على ثقة من مودته لعلمي أنه من جملة الخلق.
10 الوسام: الوسامة، أي حسن الصورة. يقول:
العاقل إنما يحب من يحبه لأجل صفاء الود بينهما، فمن أصفى له الود أحبه، أما
الجاهل الأحمق فأنه يحب على جمال الصورة وليس كل جميل الصورة يستحق المحبة.
11 آنف: أستنكف أي أستكبر.
12 يقول: إذا لؤمت الأخلاق غلبت على الأصل
الطيب الكريم حتى يكون صاحبها لئيما وإن كان من أصل كريم.
13 أعزى: أنسب. الهمام: السيد الشجاع السخي.
يقول: لا أقنع من الفضل بأن أنسب إلى جد فاضل، يعني إذا لم أكن فاضلا بنفسي لم يغن
عني فضل جدي.
14 القد: القامة. حد: حد السيف. نبا السيف:
كل عن الضرب. القضم: السيف الذي به فلول. الكهام: الذي لا يقطع. يقول: عجبت لمن
توافرت له قوة الشباب وبأسه ثم لا ينفذ في الأمور ولا يكون ماضيا.
15 المطي: الإبل. السنام: ما شخص من ظهر
البعير. يقول: عجبت لمن وجد الطريق إلى معالي الأمور فلا يبادر إلى قطعها ليصل
إليها، ولا يتعب مطاياه في ذلك الطريق حتى تذهب أسنمتها.
16 يقول: ولا عيب أبلغ من عيب من قدر أن يكون
كاملا في الفضل فلم يكتمل، أي لا عذر له في ترك الكمال إذا قدر على ذلك ثم تركه،
والعيب ألزم له من الناقص الذي لا يقدر على الكمال. يشير بهذه الأبيات إلى نفسه
ويعرض بالرحيل من مصر.
17 الخبب: ضرب من السير. الركاب: الإبل.
يقول: أقمت بمصر لا تسير بي الإبل إلى خلف ولا إلى قدام، يعني أنه لزم الإقامة
بها.
18 يقول: إن مرضه قد طال حتى مله الفراش وكان
هو يمل الفراش وإن لاقاه جنبه في العام مرة واحدة، لأنه أبدا كان يكون على سفر.
19يقول: إني بمصر غريب فليس يعودني بها إلا
القليل من الناس، وفؤادي سقيم لتراكم الأحزان علي، وحسادي كثير لوفور فضلي، ومرامي
– مطلبي – صعب لأني أطلب الملك.
20 قوله: من غير المدام: أي سكران من غير
خمر، وإنما من الضعف والهموم.
21 وزائرتي: أي ورب زائرة لي – يريد الحمى
وكانت تأتيه ليلا. يقول: كأنها حيية إذ كانت لا تزورني إلا في دجنات الظلام.
22 المطارف: جمع مطرف، وهو رداء من خز. والحشايا:
جمع حشية، وهي ما حشي من الفراش مما يجلس عليه. عافتها: كرهتما وأبتها. يقول: هذه
الزائرة – يعني الحمى – لا تبيت في الفراش، وإنما تبيت في عظامي.
23 يقول: جلدي لا يسعها ولا يسع أنفاسي
للصعداء، والحمى تذهب لحمي وتوسع جلدي بما تورده علي من أنواع السقام.
24 قال الواحدي: يريد أنه يعرق عند فراقها،
فكأنها تغسله لعكوفه على ما يوجب الغسل، وإنما خص الحرام للقافية، وإلا فالاجتماع
على الحلال كالاجتماع على الحرام في وجوب الغسل. وقال ابن الشجري: وإنما خص الحرام
لأنه جعلها زائرة غريبة ولم يجعلها زوجة ولا مملوكة.
25 سجم الدمع: سال وانسكب. يقول: إنها تفارقه عند الصبح فكأن الصبح يطردها وكأنها
تكره فراقه فتبكي بأربعة أدمع.
26 يقول: إنه لجزعه من ورودها يراقب وقت
زيارتها خوفا لا شوقا.
27 يقول: إنها صادقة الوعد في الورود – لأنها
لا تتخلف في ميقاتها – وذلك الصدق شر من الكذب، لأنه صدق يضر ولا ينفع، كمن أوعد
ثم صدق في وعيده.
28 يريد ببنت الدهر: الحمى. وبنات الدهر:
شدائده. يقول للحمى: عندي كل نوع من أنواع الشدائد فكيف لم يمنعك ازدحامها من
الوصول إلي؟
29 يقول: لقد جرحت رجلا من كثرة ملاقاته
الحروب لم يبق فيه مكان لضرب السيوف ولا السهام.
30 العنان: سير اللجام. الزمام: المقود.
يقول: ليت يدي علمت هل تتصرف بعد هذا في عنان خيل أو زمام إبل؟ يعني: ليتني علمت
هل أصح وأبرأ فأسافر على الخيل والإبل؟
31 هواي: يعني ما يهواه ويطلبه. براقصات:
بإبل تسير الرقص، وهو ضرب من الخبب. محلاة: من الحلية. اللغام: زبد يخرج من فم
البعير. يقول: وهل أقصد ما أهواه من المطالب والمقاصد بإبل تسير الرقص وقد جمد
الزبد على مقاودها فصار عليها مثل الحلي الفضية؟
32 الغليل: العطش. القناة: الرمح. الحسام:
السيف القاطع. يقول: إنه لما كان صحيحا كان يسافر ويقاتل فيشفي غليله بالسير إلى
ما يهواه، وبالسيف والرمح.
33 الخطة: الأمر والقصة. الفدام: ما يجعل على
فم الإبريق ونحوه ليصفى به ما فيه. يقول: ربما ضاق أمر علي فخلصت منه كما تخلص
الخمر من النسيج الذي تشد به أفواه الأباريق.
34 يقول: وربما فارقت الحبيب بلا وداع
لعجلتي، يريد أنه قد هرب من أشياء كرهها فلم يقدر على توديع الحبيب ولا على أن
يسلم على أهل ذلك البلد الذي هرب منه.
35 الجمام: الراحة. يقول: إن الطبيب يظن أن
سبب دائي الأكل والشرب فيقول أكلت كذا وكذا مما يضر، وليس في طبه أن الذي أضر
بجسمي طول لبثي وقعودي عن الأسفار، كالفرس الجواد يضر بجسمه طول قيامه في المرابط،
فيفتر ويني.
36 السرايا: جمع سرية، وهي القطعة من الجيش
تسري على العدو. القتام: الغبار. دخول القتام: حضور الحرب. يقول: تعود هذا الجواد –
يعني نفسه – أن يثير الغبار في الجيوش ويخر من حرب ويدخل في غيرها.
37 فأمسك: أي الجواد. لا يطال له: لا يرخى
طِوَلُه، وهو حبل طويل تشد به قائمة الدابة وترسل في المرعى. يقول: أمسك هذا
الجواد لا يرخى له الطول فيرعى فيه ولا هو في السفر فيعتلف من المخلاة – التي تعلق
على رأسه – وليس هو في اللجام. وهذا مثل ضربه لنفسه، وأنه حليف الفراش، ممنوع من
الحركة، وجائز أن يكون هذا المثل قد ضربه لحالته مع كافور.
38 أحمم: من الحمى. يقول: إن كنت قد مرضت في
بدني فإن صبري وعزمي باقيان على ما كانا عليه ما يمرضا بمرض جسمي.
39 الحِمام: الموت. يقول: وإن سلمت من الحمى
لم أبق خالدا، ولكني أسلم من الموت بها إلى الموت بغيرها.
40 السهاد: السهر. الكرى: النوم. الرجام:
القبور. يقول: ما دمت حيا فتمتع من حالتي السهر والنوم ولا ترج النوم في القبر.
41 يريد بثالث الحالين: الموت. يقول: إن
الموت حال غير حالي السهر والنوم فلا يتمتع فيه بشيء.
شرح البرقوقي بتصرف.
شاعر عملاق بخق. احسنت النشر
ردحذفرحمه الله
ردحذفجميل
ردحذفاكثر الشعراء تأثيرا وحضورا
ردحذف