قصة قصيرة:( اليد المسلوخة La Main d'écorché)
للأديب الفرنسي الراحل جى دى موباسان
Guy de Maupassant
ترجمة: عاشور زكي وهبة
""
"" "" "" "" "" ""
"" "" "" ""
منذ حوالي ثمانية أشهر دعا ذات مساء صديق لنا يُسمَى (لويس.ر) بعض رفاق
الثانوية.
كنا نشرب البنش وندخن ونخوض في الأدب والرسم، ونروي من وقت إلى أخر بعض
الدعابات والنوادر كما هو المعتاد في لقاءات الشباب.
فجأة انفتح الباب على مصراعيه، ودخل أحد أفضل أصدقاء الطفولة لي كالأعصار
صائحا في الحال:
_ خمّنوا من أين جئت؟
أجاب أحدنا: أراهن أنك قادم من "مابيّ".
ردّ ثانٍ: لا! إنك تبدو فرحا للغاية، لقد اقترضت نقودا للتو، وحضرتَ مأتم
عمّك، أو قد تكون عرضت بضاعتك عند عمّتي.
قال ثالث: لقد انتشيتَ حالا؛ لأنك شممت رائحة البنش لدى لويس وصعدت لتعيد
الكرّة.
_ لم يحالفكم الحظ في إجاباتكم قط. لقد قدمت من قرية" پ.. " في
نورمانديا حيث قضيت ثمانية أيام، وأحمل منها أثر مجرم خطير لأصدقائي، واستأذنكم أن
أقدمه لكم!
بُعَيد هذه الكلمات أخرج من جيبه يدًا مسلوخة. كانت هذه اليد بشعة سوداء
جافةً وطويلة للغاية، كما تبدو متشنجة، وعضلاتها ذات قوة خارقة محفوظة من الداخل والخارج
بسير جلديّ شبيه بالرَّقِّ، وأظافرها صفراء حادة باقية على أطراف الأصابع، وكان كل
هذا ينشر رائحة الإجرام من على بعد فرسخ.
ثم أردف صديقي:
_ تخيّلوا كم قتلت في يوم ليس ببعيد هذه اليد.. سقط متاع ساحر عجوز ذائع
الصيت في أرجاء البلاد!
كان يتوجه إلى محفل السحرة الليلي كل أيام السبت راكبا عصا مكنسته، يمارس
السحرين الأسود والأبيض مانحا الأبقار لبنا أزرق، ويجعلهم يحملون أذيالهم كما فعل رفيق
القديس أنطوان.
يبقى أن هذا الوغد العجوز كان يتعلق تعلقا كبيرا بهذه اليد التي ـ حسب
قوله ـ كانت يد مجرم شهير تمّ التنكيل به عام 1736، وقد كانت جريمته الأولى إلقاء زوجته
الشرعية داخل بئر، ثم شنق القسّ الذي عقد قرانهما في قبة برج أجراس الكنيسة. وبعد هذه
الجريمة المزدوجة طاف البلاد، وخلال مجرى حياته القصيرة والمُفعَمة بالإجرام سلب بالقوة
اثنا عشر مسافرا، وأحرق عشرين راهبا داخل صوامعهم، وحوّل سرايا حريم إلى دير للراهبات.
صرخنا في صوت واحد: وماذا ستفعل بهذه اليد المرعبة؟!
- قسما بالرب سأجعل منها زر جرس الباب لأخيفَ بها دائنيّ.
فقال له صديقنا الإنجليزي البالغ " هنري سميث" الذي يمتلك رباطة
جأش فائقة:
- صديقي! أرى أن هذه اليد ليست إلا لحما هنديا محفوظا على الطريقة الحديثة،
أنصحك بأن تصنع منها مرقا.
ردّ ببرود أعصاب بليغ طالب طبّ أغلب شعره شائب:
- لا داعي للسخرية أيها السادة! وأنت يا بيير إذا أردت النصيحة، فعليك أن
تدفن هذه البقايا البشرية حسب الشريعة المسيحية؛ لأن صاحبها لن يعود للمطالبة بها.
وربما تكون هذه اليد قد ارتكبت أعمالا سيئة. وكما تعلم الحكمة القائلة: " مَن
قتلَ يُقتَل ولو بعد حين…
عقّبَ المُضيفُ: ولا يشفى المرء من عيوبه القديمة!
وسكب للطالب الجامعي كأسا كبيرة من البنش، ابتلعها دفعة واحدة، وسقط فاقد
الوعي أسفل المائدة.
تمّ استقبال هذا المخرج بعاصفة من الضحك. رفع بيير كأسه وحياهم باليد
المسلوخة قائلا:
_ سأشرب في الزيارة القادمة نخب سيدك!
ثم تحدّث الجميع في أمور شتى، وعاد كلّ منهم إلى بيته.
في اليوم التالي حينما كنت أمرّ من أمام باب( بيير) ودخلت عنده، كانت
الساعة تقترب من الثانية بعد الظهر، وجدته يقرأ ويدخّن. قلت له: إيه وبعد، كيف حالك؟
أجابني: على خير ما يرام.
_ ويدك الغريبة؟!
_ يدي! كان ينبغي عليك رؤيتها على الجرس حيث وضعتها أمس مساء عند عودتي.
بالمناسبة، تخيّل أن أحد الحمقى ليصنع لي مقلبا سخيفا دون شك جاء ودقّ الجرس نحو منتصف
الليل، سألت من هناك؟ لكن لم يجبني أحد. عدتُ إلى الفراش واستغرقتُ في النوم ثانية.
في هذه اللحظة، رنّ الجرس، كان مالك العقار وهو شخص فظّ بالغ الوقاحة
دخل دون تحية، وقال لصديقي:
_ سيدي، من فضلك انزع فورا هذه الجيفة التي تعلقها في حبل جرسك؛ وإلا سأكون
مجبرا على طردك من هنا!
ردّ بيير بكثير من الرزانة والوقار:
_ سيدي، إنك تهين يدا ليست جديرة بهذه المعاملة، ولتعلم إنها تخصّ رجلا
على خلق عظيم..
أدبر المالك على عقبيه وخرج كما دخل، وتبعه( بيير) وأنزل اليد وعلّقها
في الجرس المتدلي في مخدعه، ثم قال:
_ هكذا أفضل! هذه اليد كالراهب اللاترابي الذي ينبغي أن يموت، ولسوف تمنحني
أفكارا جادّة كل ليلة أثناء نومي...
بعد ساعة ودّعته وعدتُ إلى بيتي.
ساء نومي في الليلة التالية؛ إذ كنت مهتاجا وعصبيّا واستيقظت عدة مرات
مذعورا. وتخيّلت في إحدى اللحظات أن رجلا دخل بيتي، صحوتُ أبحث في الدولاب وتحت الفراش،
وأخيرا في حوالي الساعة السادسة صباحا بدأت أغفو حتى أيقظني قرع شديد على الباب جعلني
أقفز في سريري.
لقد كان خادم صديقي يبدو أنه ارتدى ثيابه على عجل، ويظهر عليه الشحوب
والارتجاف، وكان يصرخ منتحبا:
_ لقد قُتِلَ سيدي
المسكين!
لبستُ ثيابي على عجل وهرولتُ إلى نزل (بيير)، كان يغصُّ بالناس الذين
كانوا يتباحثون ويضطربون في حركة دائبة.. كلّ واحد منهم يتكلّم بإطناب، ويحكي ويعلّق
على الحدث من شتى الأوجه.
وصلتُ بشقّ الأنفس إلى الغرفة حيث كان بابها تحت حراسة الشرطة، عرّفتهم
بنفسي فتركوني أدخل. كان أربعة جنود يقفون وسط الحجرة، وفي يد كل منهم دفترا صغيرا،
كانوا يفحصون ويتبادلون الحديث بصوت خفيض من وقت إلى أخر، ويدوّنون في دفاترهم. كما
كان هناك طبيبان يتحدثان بجوار الفراش حيث كان يرقد (بيير) مُمدّدا فاقد الوعي؛ لم
يكن ميتا لكن كانت له هيئة مفزعة مخيفة، وكانت عيناه جاحظتين للغاية، وحدقتاها مبسوطتين
كأنما تمعن النظر بخوف يصعب وصفه في شىء مريع مجهول.. وكانت أصابعه مقبوضة وجسمه مغطى
حتى الذقن ببساط رفعته، كانت تظهر على عنقه آثار خمسة أصابع بدت مغروسة في اللحم، وبعض
قطرات الدم تلطّخ قميصه.
في هذه اللحظة استرعى انتباهي شىء، نظرت مصادفة إلى جرس المخدع، لم تكن
اليد المسلوخة موجودة؛ دون شكّ قد نزعها الطبيبان كيلا تثير مشاعر الأشخاص الذين يدخلون
غرفة الجريح. لقد كانت بالفعل بشعة.. ولم اتساءل أبدا عما حدث.
أقصّ الآن من جريدة اليوم التالي قصّة الجريمة بكلّ تفاصيلها التي حصلت
عليها الشرطة... وها هو ذا ما قرأته فيها:
" وقعت أمس محاولة اغتيال رهيبة ضد شخص السيد الشاب
(بيير. ب)، وهو طالب في كلية الحقوق ينتمي إلى أفضل العائلات النورمانديّة.. وكان هذا
الشاب قد عاد إلى بيته حوالي الساعة العاشرة مساءً، وقد بعث خادمه (السيد بوفان) قائلا
له بأنه مُتعَب، وأنه سيستلقي على فراشه.
وفي حوالي منتصف الليل استيقظ الخادم فجأة على جرس سيده الذي كان يتحرّك
بعنف.. أصابه الخوف فأضاء النور وانتظر، فتوقف الجرس لمدّة دقيقة، ثمّ عاد بنفس قوّة
الرنين مما جعل الخادم مضطربا من الهلع. فاندفع خارج حجرته وذهب ليوقظ البوّاب الذي
هرع بدوره ليخبرَ الشرطة.
وفي أقل من ربع ساعة جاء شرطيان وكسرا الباب، وأذهلهما منظر رهيب: لقد
كان أثاث الغرفة مقلوبا، وكلّ شىء يعلن أن شجارا عنيفا وقع بين الضحيّة والجاني. وكان الشاب (بيير.ب) راقدا على ظهره بلا حراك وسط
الغرفة، أعضاؤه مُتيبسة ووجهه كابي اللون وعيناه متسعتان بفزع، وكانت تظهر على عنقه
آثار عميقة لخمسة أصابع.
وكان تقرير الطبيب (بوردو) الذي تمّ استدعاؤه في الحال يقول: أن المعتدي
يتمتع بقوة خارقة ويمتلك يدا بالغة النحافة والعصبية.. إذ تركت في عنق الضحيّة ما يشبه
خمسة ثقوب كالرصاصة تبدو موصولة في اللحم.
لم يكن هناك ما يثير الشكوك نحو الدافع وراء الجريمة، ولا يوجد أثر للجاني،
وما زالت العدالة تأخذ مجراها".
وقرأتُ في اليوم التالي بنفس الجريدة:
" إن السيد (بيير.ب) ضحيّة محاولة الاغتيال الفاشلة
التي قصصناها بالأمس قد استعاد وعيه بعد ساعتين من العناية الفائقة التي منحها إياه
الطبيب(بوردو) حتى إن حياته لم تعد في خطر؛ ولكن يُخشى بشدّة على عقله، ولا يوجد أي
أثر للجاني".
في الواقع، لقد جُنَّ صديقي المسكين، وخلال سبعة شهور كنت أذهب لزيارته
في المصحّة التي أودعناه فيها؛ لكنه لم يستعد أي وميض من العقل.
وخلال هذيانه كانت تفلت منه ألفاظ
غريبة، ومثل كلّ المجاذيب كانت لديه فكرة راسخة: كان يعتقد على الدوام أنه مُطارد من
قبل شبح.
في أحد الأيام كانوا يبحثون عني على جناح السرعة ليخبروني بأنه حالته
ازدادت سوءًا.
وجدته يحتضر، وظلّ لمدّة ساعتين هادئا تماما ثمّ انتصب فجأة على فراشه
رغم كلّ جهودنا، وكان يصرخ مُحرّكا ذراعيه كمن أصبح فريسة خوف رهيب صائحا:
_امسكوها امسكوها! إنه يخنقني! االنجدة! أغيثوني!
ودار في الحجرة دورتين وهو يصيح صارخا ثمّ سقط ميتًا بحيث التصق وجهه
بالأرض.
ولأنه كان يتيمًا، فقد تكفّلتُ بتوصيل جثمانه إلى قرية (پ..) الصغيرة
في نورمانديا حيث مدفن أبويه. وهي نفس القرية التي كان قادما منها مساء حيث وجدنا نشرب
البنش عند (لويس.ر) وحيث قدّم لنا اليد المسلوخة.
تمّ وضع جثمانه داخل تابوب رصاصي. وبعد أربعة أيام كنت أتجوّل حزينا
- بصحبة القسّ العجوز الذي علّم صديقي العظات الأولى - في الجبّانة الصغيرة حيث تمّ
دفنه في مقبرته.
كان الجوّ بديعا، والسماء بالغة الزرقة ينساب ضوؤها في الأرجاء، وكانت
العصافير تشدو على عوسج المنحدر حيث كنا صغارا- أنا وصديقي- كثيرا ما نأتي إلى هذا
المكان نأكل ثمار التوت.. وكأني أراه الآن ينسلّ عبر السياج ويلج من الفتحة الصغيرة
التي كنت أعرفها جيدا ها هنا بالضبط على طرف الأرض التي يُدفَن فيها الفقراء. ثمّ كنا
نعود إلى المنزل وقد كانت خدودنا وشفاهنا سوداء من أثر عصير التوت الذي أكلناه.
نظرت إلى العوسج المغطّى بالتوت، والتقطت واحدة ووضعتها في فمي. بينما
كان القسّ يفتح كتاب الصلوات ويدندن متضرعا بصوت خفيض، سمعت في طرف الممر طرق قادوم
الحفّارين الذين كانوا يحفرون المقبرة، ونادوا علينا فجأة. أغلق القسّ كتابه، وذهبنا
نحوهم لرؤية ما يريدونه.
لقد عثروا على تابوت أطاحوا بغطائه بضربة معوّل واحدة، واكتشفنا داخله
هيكلا عظميّا بالغ الطول راقدا على ظهره، وكان يبدو أنه يحملق فينا بعينيه الغائرتين؛
بل ويتحدانا.
أحسستُ بوعكة، ولم أعرف سبب كوني خائفا تقريبا.
صاح أحد الرجال:
- عجبا! انظروا إذن! إن للوغد قبضة يد مقطوعة، ها هي يده.
قال القسّ:
- هيّا يا أصدقائي! دعوا الموتى يرقدون في سلام. اغلقوا هذا التابوت، سنحفر
جانبا آخر في مقبرة السيد (بيير) المسكين.
انتهى اليوم التالي تماما وعدت أدراجي إلى طريق باريس بعد أن تركتُ خمسين
فرانكا للقسّ العجوز كي يُقيم قدّاسا لأجل راحة روح مَن أقلقنا قبره هكذا بهذه الصورة.
***********"*"""*******""""
تمّت ترجمة القصة بعون الله ظهر الأربعاء 2023/3/29 الموافق السابع من
رمضان سنة 1444 هجرية.
إرسال تعليق